من المعروف أن مصر لم تكن إلا دولة إفريقية قبل أن تكون عربية الانتماء واللسان. وعليه فإن الارتباط بإفريقيا هو ارتباط تكويني وأصيل بحيث أنه أصبح أحد المكونات المحورية للشخصية المصرية. وإذا كانت مصر تتمتع بمسحة من عبقرية في المكان فإن ذلك قد دفعها منذ القدم إلى أن تتجاوز حدود ومعطيات الجغرافيا لترتبط بجوارها الإقليمي ومجالها الحيوي. وتشير الوثائق والنقوش التي عثر عليها في معبد الدير البحري إلى ارتباط مصر الفرعونية ببلاد بونت التي تقع في الصومال الحالي ومنطقة حوض النيل، وهو الأمر الذي يوضح أن منطقة منابع النيل مثلها في ذلك مثل طرق الملاحة الدولية في المحيط الهندي والبحر الأحمر تعد من أهم المناطق التي تتصل بالمصالح الأمنية والإستراتيجية لمصر من ناحية الجنوب. وقد كانت المبادئ الحاكمة لتوجهات الدولة المصرية والتي تضبط حركتها الخارجية تستند على طبيعة هذه الخصائص الجيوستراتيجية المرتبطة بموقع مصر ومكانتها الإقليمية والدولية. فالمخاطر والتهديدات القادمة من جهة الشمال الشرقي كانت تستهدف دوماً أمن النظام الحاكم في مصر، أما المخاطر والتهديدات القادمة من الجنوب فإنها استهدفت أمن واستقرار المجتمع، بل إنها ارتبطت بأسباب وجوده واستمراره. وإذا كانت مصر الناصرية قد أكدت على هذا التوجه العام من خلال جعل إفريقيا إحدى دوائر ثلاث مع العربية والإسلامية تحكم سياستها الخارجية فإن التوجه الإفريقي سرعان ما عانى من تقلبات السياسة وتحولات الأيديولوجية على مدى العقود الأربعة الماضية. ولا يخفى أن عزلة مصر وعزوفها عن القيام بدور فاعل في إفريقيا قد ازدادت في ظل حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك. إذ كانت السمة الأبرز للسياسة المصرية في عهده هي السكون وعدم الميل إلى تغيير الوضع القائم مع الحرص على عدم إثارة غضب كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وتذكر بعض الروايات الموثقة أن الرئيس السوداني عمر البشير بعد تطبيعه العلاقات مع مصر وقيامه بزيارة القاهرة عام 2004 عرض على الرئيس السابق مبارك القيام بزراعة القمح في السودان إلا أن الأخير اعتذر بشيء من الاستهزاء قائلاً: "إنه لا يريد أن يغضب الأمريكان". إن ثورة 25 يناير التي أطاحت بنظام الاستبداد في مصر قد أحدثت تحولات فارقة في كيفية رؤية مصر لذاتها وللآخرين وهو ما يعني عودة الروح للدور الإقليمي الفاعل لمصر ولاسيما في محيطها الإفريقي. فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحطيم الصور النمطية السائدة عن مصر في إفريقيا؟ وكيف يتثنى لمصر الثورة أن تدافع عن أمنها المائي؟ وما العمل لمواجهة تحديات تبني سياسة إفريقية جديدة لمصر في مرحلة ما بعد الثورة؟
ويمكن تحديد بعض مكونات الصورة المصرية الجديدة في محيطها الإفريقي والتي أكدت على إحداث قطيعة مع النظام القديم في العناصر الآتية:
وفي مقابل هذا الحراك المصري وتوجهه جنوباً نحو إفريقيا نجد أن أحداث الثورة المصرية ولا سيما في رمزيتها التي عبر عنها "ميدان التحرير" قد ألهمت العديد من الكتاب والساسة الأفارقة الذين حرصوا على زيارة القاهرة للتعرف على حقيقة ما يدور. ولعل ما كتبه المفكر الأوغندي الأبرز محمود ممداني بعنوان "تأملات إفريقية حول ميدان التحرير" يعبر عن أهمية الدرس المصري لإفريقيا. فقد رأى ممداني في "التحرير" قوة توحيد وإدماج تتجاوز الانقسامات الطبقية والعرقية والدينية. ولم يقتصر الهام الثورة المصرية على فئة الكتاب والمثقفين الأفارقة وإنما شملت الشباب الطامحين في الإصلاح والتغيير بشكل عام. ففي زيمبابوي التي ترزح تحت حكم روبرت موجابي منذ عام 1980 تم إلقاء القبض على مجموعة من الشباب الناشطين سياسياً أثناء مشاهدتهم لشرائط فيديو عن الثورة المصرية وذلك بتهمة الخيانة ومحاولة قلب نظام الحكم. ![]() يبدو أن أخطر التحديات التي تواجه مصر بعد رحيل مبارك تتمثل في أمنها المائي حيث قررت دولة بوروندي في فبراير 2011/شباط التوقيع على اتفاق التعاون الإطاري لدول حوض النيل والذي يتم التفاوض بشأنه منذ عام 1999. وإذا علمنا أن خمسا من دول أعالي النيل الأخرى وهي كينيا وأثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا كانت قد وقعت من قبل على هذا الاتفاق في مدينة عنتيبي الأوغندية فإن معنى ذلك اكتمال النصاب القانوني له لكي يصبح نافذاً. وإذا كانت أثيوبيا قد عمدت على استحياء إلى تجميد عملية التصديق على اتفاقية عنتيبي كبادرة حسن نية تجاه الثورة المصرية وإلى حين وجود حكومة منتخبة في مصر فإن ذلك لا يعني نهاية المطاف أو إغلاق ملف الإطار القانوني الحاكم لتوزيع واستغلال موارد مياه نهر النيل بين كافة الدول النهرية. وقد قامت حكومة الثورة في مصر بمحاولات مستمرة لتجاوز أخطاء الماضي في التعامل مع ملف مياه النيل ومن ذلك:
ولعل التساؤل المطروح اليوم يتمثل في البدائل المتاحة أمام مصر في مرحلة ما بعد مبارك لتأمين مياه النيل. يمكن تصور بدائل ثلاثة يشكل كل منها سيناريو محتمل الوقوع بدرجة أو بأخرى. يذهب أول هذه البدائل إلى اللجوء إلى اختيار القوة المسلحة في مواجهة السدود الأثيوبية وهو ما يعني الدخول في حرب مفتوحة مع أثيوبيا بسبب المياه. على أن هذا الاحتمال غير واقعي بسبب المعطيات السائدة في مصر بعد الثورة نظراً لأنه يتطلب المزيد من الموارد ويفقد مصر مكانتها الأخلاقية في المجتمع الدولي. أما البديل الثاني فيذهب إلى إقامة تحالف مصري مع دول النيل الأبيض وهي أوغندة ودولتي السودان وذلك في مواجهة الهيمنة الأثيوبية على النيل الأزرق. غير أن تأثيرات هذا الخيار المصري تفضي إلى حالة من الحرب الباردة بين كل من مصر وأثيوبيا بما يعنيه ذلك من تقويض لدعائم الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة. ولعل البديل الثالث يشير إلى التعاون المصري الأثيوبي حيث أن مصر أكثر تقدماً من أثيوبيا وتتمتع بتنوع مصادر اقتصادها الوطني. أما أثيوبيا فلديها إمكانيات هائلة لتخزين المياه من النيل الأزرق وهو ما يعني تعظيم استفادة مصر من هذه المياه. وبمقدور هذا التعاون أن يسهم في سيادة نمط من الشفافية وتبادل المعلومات بين صانعي القرار في كل من مصر وأثيوبيا. ومع ذلك يظل التحدي الأكبر الذي يواجه السياسة المائية لمصر متمثلاً في الموقف النهائي من اتفاق عنتبي الخاص بمياه النيل. فهل يمكن أن تضحي مصر بحقوقها التاريخية المكتسبة في مياه النيل مقابل تعزيز التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل؟ باعتقادي أن الإجابة على ذلك تحتاج إلى حدوث توافق بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية في مصر بعد الثورة. ![]() على الرغم من المؤشرات الايجابية التي ارتبطت بالتحرك المصري الجديد تجاه إفريقيا ودول حوض النيل بشكل خاص فإن عملية إعادة بناء الدور الاستراتيجي لمصر في إفريقيا تحتاج إلى مزيد من الوعي والإرادة السياسية وفترة زمنية ليست بالقصيرة، ويمكن تصور عدد من المداخل التصحيحية لإعادة الاعتبار للوجه الإفريقي المصري ومن ذلك:
الخاتمة إن على مصر الثورة أن تؤسس لمرحلة جديدة تعتمد من الناحية الإستراتيجية على التوجه جنوباً نحو إفريقيا. ويمكن في هذا السياق التمييز بين دوائر فرعية أربعة للحركة المصرية. أولها تشمل السودان بدولتيه وهو ما يعني إعادة طرح مشروع التعاون الاستراتيجي بين مصر والسودان من منظور جديد لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية المشتركة. أما الدائرة الفرعية الثانية فإنها تشمل دول منظومة حوض النيل بما يعني ضرورة تحقيق التعاون المشترك لضمان مصالح مصر المائية. وتشمل الدائرة الثالثة الفرعية الكتلة الإسلامية الضخمة في غرب إفريقيا حيث تمتلك مصر رصيداً تاريخياً وثقافياً رصيناً مع دول هذه المجموعة، وهو ما يعني إمكانية الاستفادة منه لتحقيق آفاق جديدة للتعاون المشترك. ومن جهة أخرى لا يمكن تجاهل وجود قوى إقليمية صاعدة في إفريقيا مثل أثيوبيا وغانا ونيجيريا وجنوب إفريقيا وهو ما يشكل دائرة فرعية رابعة للحركة المصرية تجاه إفريقيا. ويمكن لمصر الجديدة أن تعتمد في تنفيذ هذا التوجه الجنوبي على أدوات قوتها الناعمة المتعددة، فهي تملك قدرات وخبرات بشرية هائلة، كما أن مؤسساتها التعليمية والدينية مثل الأزهر الشريف والكنيسة القبطية يمكن لها أن تكون عوناً وسنداً على تحقيق هذه الرؤية الإستراتيجية الجديدة تجاه إفريقيا. بيد أن ذلك كله يقتضي ضرورة تغيير المناهج والسياسات السائدة التي ثبت فشلها، فضلاً عن أهمية إعادة تأهيل العناصر والكوادر البشرية اللازمة لقيادة التوجه المصري الجديد صوب إفريقيا. هذا هو التحدي! _______________ أستاذ العلوم السياسية بجامعتى القاهرة وزايد ومتخصص في الشأن الإفريقي. المراجع: 1. Mahmood Mamdani ,An African reflection on Tahrir Square, a keynote speech at the Annual Research Conference on ‘Social justice: theory, research and practice’, at the American University of Cairo, Cairo, 5 May 2011. 2. Korwa Adar and Nicasius Check(eds.), Cooperation Diplomacy, Regional Stability and National Interests: The Nile River and Riparian States., Pretoria: Africa Institute of South Africa, 2011. 3. Keffyalew Gebremedhin, What should Ethiopians expect from Meles's two-day visit to Cairo? September 16th, 2011. At: http://www.abugidainfo.com/?p=18838. 4. أيمن محمد عبدالقادر، نحو إستراتيجية إعلامية مصرية سودانية لإدارة الأزمات الإفريقية، ورقة مقدمة لمؤتمر العلاقات المصرية السودانية عبر العصور،جامعة القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية،18-19 مايو 2009. ص 10. 5. محمد نظمى الزياتى، الدبلوماسية الشعبية ودورها في إعادة إحياء دور مصر التاريخي ،وردت في: http:// w w w .sis.gov.eg/Ar/LastPage.aspx?Category_ID=1736 |